Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

نحن والميراث النبوي(6)

      الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المصطفى لوحيه، والمنتخب لرسالته، أفضل خلق الله نفسا، وخيرهم نسبا ودارا، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

      قال الله تباركت أسماؤه: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” [اَل عمران، 164].

      كان العالم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة يتسكع في دروب الوثنية والشرك والتيه، وكانت الجزيرة العربية خصوصا قطعا مجزأة، وقبائل متناحرة، وطاقات ضائعة، وكان الإنسان في ذلكم الزمان قد نسي ربه، بل قد نسي نفسه، وفقد رشده، وفقد بصيرة التمييز بين الحق والباطل، والهدى والغي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم إنسانا قد هانت عليه إنسانيته يسجد للحجر والبشر، رأى إنسانا معكوسا قد فسد نظام فكره، ومعيار ذوقه، فلم يدرك الجليات، وصار يستطيب الخبيث ويستقذر الطيب، رأى صلى الله عليه وسلم معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والفجور والعهر إلى حد الاستهتار، والتعامل بالربا إلى حد الغصب والاستغلال، ورأى الطمع والغش إلى حد الجشع، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد، ورأى زعماء اتخذوا بلاد الله خولا وعباده خدما ومتاعا، ثم ما لبث هذا العالم أن أشرقت عليه شمس النبوة، ورسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه بيده وجعل له نورا يمشي به في الناس، وعلمه الكتاب وزكاه بالحكمة: “يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [المائدة، 18] وقال: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِئَ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْاِنْجِيلِ يَاَمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْاَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” [الاَعراف، 157].

      لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه عليه الصلاة والسلام في المجتمع الإنساني أغرب وأعظم ما وقع في تاريخ البشر، كان هذا التحول عجيبا في سرعته، عجيبا في عمقه، عجيبا في امتداده وسعته، عجيبا في حقائقه وأبعاده، فما أحوج الأمة اليوم أن تتفقه في أصول هذا التحول ومبادئه وقوانينه، ما أحوج المسلمين اليوم أن يتبينوا كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم خامات الجاهلية إلى عجائب الدهر، وسوانح التاريخ، إذ “الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” فهذا عمر رضي الله عنه الذي كان تائها في بيداء الصحراء، وكان شغله وهجيراه رعي الإبل لأبيه، وكان من أوسط شباب قريش جلادة وصلابة، إذا به بعد الإسلام يدهش العالم بعدله وأمانته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما، ويؤسس دولة تجمع بين ممتلكاتها وتفوقها في الإدارة والنظام فضلا عن التقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثل السائر، ويشيد نظاما بديعا في تصريف شؤون الناس، وكان شعاره الذي لايفتأ يردده ليل نهار: “والله لو تعثرت بغلة في العراق لخشيت أن أسأل عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟”.

      وهذا زيد بن حارثة يقود جيش المسلمين إلى مؤتة وفيه مثل جعفر بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، ويقود ابنه أسامة بن زيد جيشا فيه مثل أبي بكر وعمر…

      وهذا علي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس قد أصبحوا في مدرسة النبوة من علماء العالم؛ يتفجر العلم من جوانبهم، وتجري الحكمة على ألسنتهم، أبر الناس قلوبا، وأصدقهم فكرة، وأقلهم تكلفا؛ يتكلمون فينصت الزمان، ويخطبون فيتحرك التاريخ نحو غايته.

      لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من طاقات وخصائص، أصاب الشخصية الإنسانية في المحز، فانعطفت بحول الله إلى وجهة جديدة، وسلوك رشيد.

      ما أحوجنا أن نتدارس معالم هذه التجربة، وأن نستقري سننها ومناهجها في الإصلاح العميق الذي رسمته للأمة، وأنا أذكر هذا الكلام وفي ذهني ملاحظة الطريقة التي تحتفل بها كثير من القنوات العربية بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم إذ تحيل المشاهد على لوحات رمزية بالأبيض والأسود من غابر زمان الصحراء والإبل والبداوة، وكأنها توحي إليه بأن ميلاد هذا النبي حدث من حوادث التاريخ لا علاقة له بحياتنا وواقعنا ومشكلاتنا… والسؤال الذي لازال يريد جوابا: ما قيمة احتفالات الأمة بهذه الذكرى العطرة وسط محيط على طرفي نقيض من مقاصد الرسالة النبوية العظيمة؟ أو بعبارة أخرى: ما قيمة شعاراتنا في خضم واقع يعج بالأمية والجهل والمرض والفقر والظلم؟

      أيها الأفاضل إنكم لتعلمون من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحنث في غار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ولكنه كان يعود في كل مرة إلى مكة ليتزود لمثلها، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء متنسكا متحنثا حنيفا، ولم يزل يربي أصحابه في مكة تربية عميقة تزكي أرواحهم بالكتاب والحكمة، لكن الإسلام لم يبلغ ذروته وأوجه إلا بعد استقراره في المدينة؛ فهناك تمت النعمة، واكتمل الدين، واتخذت الرسالة وضعها النهائي.

      كان لابد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعود من الغار فلو لم يحدث لبقي متحنثا حنيفا، لكنه خرج من الغار بأمر ربه، وشرع يشق طريقه في خريطة الزمان ابتغاء التحكم في ضبط قوى التاريخ وتوجيهها على نحو ينشئ به أمة جديدة، وواقعا جديدا، ونظاما جديدا في المعاش والعلائق والحياة. وهكذا تم الامتزاج بين العالم الروحي والمعنوي، والواقع والتاريخ، وبين الإيمان والعقل، وبين القيم والحركة، لقد بدأ الإسلام غريبا عقديا، ثم ما لبث أن تطور حتى أصبح مجتمعا ودولة وحضارة؛ وهذا يعني أن الدين قد اختلط بمشاريع الناس في الواقع، و تفاعل مع حاجاتهم وهمومهم وآمالهم.

      إنه من المتعذر أن يفهم الإسلام بدون مجتمع يأخذ بأحكامه، ويطبقها في زمانه ومكانه وأحواله، فالمجتمع ضرورة لفهم كثير من الأحكام، ومن جهة أخرى فهم حركة الواقع والتاريخ ضرورة لاستنباط كثير من الأحكام وتنزيله.

      والحمد لله رب العالمين.

أرسل تعليق