Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

شذرات من سير العلماء

      المطلع على سيرة علمائنا الأفذاذ يكتشف أنه أمام كنز من النماذج البشرية المتميزة. وأحببت في هذا العدد أن أشرك القراء الأفاضل في الوقوف قليلا عند بعض شذرات ثلة من هؤلاء الأعلام الذين يعتبرون النجوم المنيرة في سماء القيم الحضارية للأمة الإسلامية، والذين يضربون لهذا أروع الأمثلة القابلة للإحتداء والتمثل والاقتداء.

      البداية مع الإمام ابن عبد البر النمري (تـ 463 هـ) الذي كان يتميز بذاكرة من جوهر، استطاع بفضلها أن يبلغ درجة الاجتهاد، فنبذ التقليد، ورجع في استنباط الأحكام إلى ينابيع الإسلام الصافية، بل أفراد في مؤلفه جامع بيان العلم وفضله باباً تحت عنوان: فساد التقليد ونفيه والفرق بينه وبين الأتباع.

      ومن الأشياء التي بصمت حياة هذا الإمام الجليل أنه رحمه الله كان في منأى عن التعصب في جميع أشكاله، فكان أولا ظاهريا، ثم لم يلبث أن اعتنق المذهب المالكي، بيد أنه أحيانا كان يميل إلى المذهب الشافعي. وقد استطاع رحمه الله أن يستميل إعجاب العلماء وتقديرهم له حتى قال فيه تلميذه الإمام ابن حزم: (وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري). وأثنى عليه أبو الوليد الباجي قائلا: (لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث). ووصفه السيوطي بأنه ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان.

      ونصل إلى العلامة ابن حزم الأندلسي(تـ 465 هـ) لنقف وقفة فقهية لنتأمل طبيعة فكره ومنهجه في تحليل القضايا واستنباط الأحكام. فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غزوة الخندق نادى في المسلمين ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. فسار الناس فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم بل نصلي. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.

      وعلق الإمام ابن حزم على هذا النص حيث أكد أن التعنيف إنما يقع على العاصي المتعمد المعصية وهو يعلم أنها معصية، وأما من تأول قصدا للخير فهو وإن لم يصادف الحق غير معنف. ثم أدلى برأيه في الموضوع قائلا: (وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك ما صلينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام). بل إنه ربط اجتهاده هذا بطاعة رسول الله، فقال في هذا الشأن في كتابه “جوامع السيرة”: (ولا فرق بين نقله صلى الله عليه وسلم صلاة في ذلك اليوم إلى موضع بني قريظة، وبين نقله صلاة المغرب ليلة مزدلفة، وصلاة العصر من يوم عرفة إلى وقت الظهر، والطاعة في ذلك واجبة).

      الشذرة الثالثة مع القاضي عياض السبتي اليحصبي (تـ 544 هـ) الذي لا يذكر إلا ويذكر معه القول المشهور: لولا عياض ما ذكر المغرب، حتى شاع ذلك في كتب أهل المشرق والمغرب على حد سواء، وذاع على ألسنتهم على سبيل التباهي والافتخار. وقد مكنه رحمه الله وسطه العلمي الذي نشأ فيه من إقباله الشديد على العلم وأهله، وساعدته رحلاته العلمية في تفتق ذاكرته والاحتجاج بأقواله وآرائه، وبتوليه القضاء وأموره اكتملت لديه حلقة موسوعية المعرفة. فكلما كان العالم قاضيا كلما ازداد إلمامه بجوهر الأمور وكنهها، فيدرك بذلك خصائصها ويسبر أغوارها.

      وقد اشتهر إمامنا الجليل بعلم الفقه على مذهب الإمام مالك رحمه الله، فهو فيه بحر لا تكدره الدلاء، ينساب الفقه من قلمه انسياب نهر جارف، يحمل معه الثراء والعمق وحسن التعليل، وقدرة على الترجيح، وقوة في الاستنباط، وبراعة في التشهير والتضعيف والاختيار، زاده تمرسه بالقضاء تضلعا فيه، يجوز معه القول أنه آخر من يعتد بثقافته الفقهية في الغرب الإسلامي، ولا أدل على ذلك من أن المتأخرين من الفقهاء كانوا يقبلون ترجيحه بدون تردد كما ذكر الأستاذ عمر الجيدي رحمه الله.

      وإلى لقاء مقبل مع ثلة أخرى من علمائنا الأماجد في العدد المقبل بحول الله تعالى.

التعليقات

  1. فاطمة الزهراء الناصري

    أستاذي الكريم شكر الله لكم وبارك في علمكم، أشعر بحرقة كبيرة لما نراه من إهمال لسير العلماء الكبار، مما يعني إقفال باب مدرسة كبيرة وعريقة هي مدرسة التراجم، وتراجم الرجال مدارس الأجيال كما يقال.
    نستمتع بلغتكم الأنيقة، وتعجبنا الأمثلة والنماذج التي تختارونها، أدامكم الله قدوة صالحة للأجيال في العلم والأخلاق…

أرسل تعليق