Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الحركة العلمية في عصر المرينيين.. (4)

1. أبي عمران العبدوسي 

وقد نقل عن أحمد بابا كذلك أن أبي عمران العبدوسي[1] إذا أقرأ المدونة، يبتدئ في المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة طبقة، حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين، والإفريقيين، والمغاربة والأندلسيين، وأئمة الإسلام، وأهل الوثائق والأحكام، حتى يكل السامع، وينقطع عن تحصيله الطامع، وكذا إذا انتقل إلى الثانية وما بعدها. هذا بعض طريقته في المدونة، أما إذا ارتقى الكرسي، يعني كرسيِّ التفسير فترى أمرا معجزاً ينتفع به من قدر له نفعه من الخاصة والعامة يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة، يكررها كل صباح ومساء يحفظها الناس ويأتونها من كل فج عميق. وبعد ذلك يقرأ القارئ آية فلا يتكلم بشيء منها إلا قليلا، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية، وأخبار السلف وحكايات الصوفية وسِيَر النبي وأصحابه والتابعين. ثم بعدها يرجع إلى الآية، وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول الحديث الأول كذا والثاني كذا والثالث كذا إلى المائة فأزيد، ثم كذلك في المائة الثانية، والشكُّ في الثالثة”.

ثم قال: “وكذلك فعل في إقرائه للعربية، فبدأ بأصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السِّير وشُرَّاح الكتاب، وطبقات النحويين حتى ملَّ الحاضرون وكلوا، ومازال كذلك حتى ذهبوا، ولم يُراجع في ذلك، وقد كان قصدهم اختباره وامتحانه” -أ هـ بتصرف يسير للإيضاح-. وإذا قد تبينت هذه الظاهرة التي كانت غالبة على علم الفروع في هذا العصر، فإنا نقول أنها طريقة منهجية إصلاحية، أختصَّ علماء المغرب دون غيرهم بالعمل عليها، والدعوة إليها إذ في هذا الوقت، بدأ العمل بتلك المختصرات العقيمة، وسرى هذا الداء الوبيل، داء اختصار إلى العلوم الإسلامية عامة، فقلت فائدتها، فكان علماؤنا يشددون النكير على ذلك، ويصدُّون الطلبة عن قراءة الكتب التي نحى بها أصحابها هذا المنحى. ويروى عن القبَّاب أنه كان يقول إنَّ بن بشير وابن شاسٍ، وابن الحاجب أفسدوا الفقه، ولما حجَّ اجتمع بابن عرفة في تونس فأطلعه ابن عرفة على مختصره الفقهي، وقد شرع في تأليفه، فقال له القبابُ ما صنعت شيئا، فقال ولِمَ؟ فقال: إنه لا يفهمه المبتدي، ولا يحتاج إليه المنتهي، فتغير وجه ابن عرفة حينئذ، قالوا: وكان هذا هو السبب الحامل له على بساط العبارة في أواخر مختصره. ومثل القباب في ذلك اليَزْناسي الفقيه الكبير؛ فإنه كان صاحب ابن شاس، واستشاره هذا في وضع مختصره الجواهر، فأشار عليه ألا يفعلْ؛ فلم يعمل ابن شاسٍ بإشارته. وقد ألمعنا إلى الأثر السيئ الذي أثرته هذه المختصرات في العلوم الإسلامية بالخصوص[2].

هذا وقد تناولنا الكلام على العلوم الإسلامية جملة، وأعطينا عليها من العبدُوسي مثالاً مشتركا. وإن ظهر أننا نخصُّ الفقه بمزيد العناية، لأنه في الواقع كان أكثرها انتشاراً ولو ذهبنا نُعدُّ رجاله البارزين الذين ما زالت الفتوى والأحكام منذ هذا العهد إلى الآن تدور على أقوالهم واجتهاداتهم لضاق المجال على استيفائهم، ولكن ذلك كله لا يغطي على ما كان لغير الفقه من الظهور، وخاصة علم الحديث رواية ودراية، وعلم التفسير وتوابعه..

2. ابن رشيد الفهري

يعتبر المحدث والرحالة الشهير ابن رشيد الفهري الذي جال في أقطار إفريقية، ومصر، والشام، والحجاز، ولقي من أعلام الرواية الجمَّ الغفير، وأكثر من هذا الشأن، وتوسع في الأخذ، وذهب في ذلك إلى أبعد غاية، وكان له تحقق بعلوم الحديث، وضبط أسانيده، وتمييز رجاله، ومعرفة انقطاعه واتصاله، وألف فيه التأليف المفيدة، وحسبك برحلته الفريدة التي سماها “ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة، في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة” المشحونة بالمسائل الحديثة والأسانيد العديدة، التي روى بها أمهات كتب هذا الفن، والأجزاء المختلفة المؤلفة فيه دليلا على رسوخ قدمه، وكونه من الحفَّاظ الذين يقلُّ لهم النظير مع كمال الثقة، وشهرة العدالة، والتمسك بالسنة، والعمل بالحديث، وإن خالف ما عليه الناس.. وإن صار المذهب المالكي، وكذلك العقيدة السَّلفية لم تنقطع منه برغم سيادة المذهب الأشعري..

وهذا ابن حجر يقول عن صاحبنا ابنُ رشيد في الدرر الكامنة: “وكان على مذهب أهل الحديث في الصفات يُمرُّها ولا يتأول، كان يسكتُ لدعاء الاستفتاح ويُسِرُّ البسطة.. “. ومن كبار محدثي هذا العصر الرئيس عبدُ المهيمن الحَضْرمي الذي جمع إلى البراعة في الأدب والعربية، التفوُّق في علم الحديث حتى حلاه ابن خلدون بإمام المحدثين، وله مشيخة حافلة تحتوي على ألف شيخ، مع أنه لم تكن له رحلة، ومن ثم قال فيه المقريُّ الكبير: “جمع فأوعى واستوعب أكثر المشاهير وما سعى، فهو المقيم الظاعن، الضارب القاطن.. “.

يتبع في العدد المقبل..

——————————————

1. أبي القاسم عبد العزيز بن أبي عمران موسى العبدوسي أحد أفراد بيت الذين ظلوا رجالاً ونساء حاملين راية الفقه والحديث بفاس والمغرب زمنا طويلا..

2. راجع الفصل التاسع والعشرين من المقالة السادسة من مقدمة ابن خلدون لتعرف تأثيرها في العلوم مطلقا فلا ريب إذ عددنا ما أتبعه علماؤنا المغاربة في هذا العصر طريقة إصلاحية منهجية..

النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون، العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول، ص: 193- 194. 

أرسل تعليق