التربية العقلية في الإســــلام.. (13)
حدود العقل ومجالات انطلاقاته
وإذا كان الإسلام قد اعترف بالعقل كمصدر من مصادر المعرفة؛ فإن هذا الاعتراف –الذي تضمنته كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وآثار السلف الصالح من أئمة وعلماء المسلمين– لا يصل على درجة الاكتفاء به هاديا في جميع الأمور بدون هداية الدين وتوجيهه. فالمسلم يملك أن يتلقى معاريفه المتصلة بكافة العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية –غير الدينية والأخلاقية– من المصادر الحسية العقلية، ولكنه لا يملك أن يتلقى معارفه المتعلقة بحقائق العقيدة والتصور العام للوجود، أو بالعبادة وأحكام الشريعة أو بالقيم الأخلاقية، أو المبادئ والأصول العامة في النظام الاجتماعي والاقتصادي والتربوي إلا من الدين أو الوحي، ذلك المصدر الرباني الذي جاء يرشد الناس إلى الحق ويهديهم إليه.
الضوابط المرشدة للعقل
لقد اهتم الإسلام بالعقل، وحرره مما أثقله من قيود التقاليد والخرافات والأساطير، والعادات الفاسدة، وفرض عليه التفكير والتأمل، ودعاه إلى التقلب في شتى مجالات البحث، وإتقان العلوم التي بها تحيا البشرية وتعمر الأرض، ولكن انطلاقات وإبداعات العقل والفكر لابد وان تضبط بحدود وضوابط ومعايير، فما هي تلك الضوابط التي وضعها الإسلام لترشيد العقل؟
لقد سخر الله تعالى لعباده الكون ليغوصوا بحاره ويجوبوا فضاءه ويجوسوا خلال دياره، هذا الكون الذي وضع الخالق سبحانه فيه القوانين والأسرار وأودعه دستورا من السنن، إلا أنه حد له حدودا أو أشار إلى ضوابط على الإنسان أن يلتزم بها في أعماله العقلية وانطلاقاته البحثية ومجالاته الفكرية[1].
والضابط العام فيها هو أن يكون الدين هاديا للعقل: “فالعقل أداة من أدوات المعرفة، لها مجالها وميدانها وطريقها الذي استطاعت أن تنطلق فيه وفي حدود هذه المقدرة استطاع العقل أن يقدم الكثير، غير أن هناك ميادين عجز عن اقتحامها، ومناطق لا تؤهله قدراته على اختراقها، وقضايا لا يستطيع الحكم فيها“[2]. فالدين جاء هاديا للعقل وموجها له، ومرشدا له في أمور معينة، من بينها المسائل الآتية:
أولا: ما وراء الطبيعة: أي: “العقائد الخاصة بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم، وباليوم الآخر، وبالغيب الإلهي على وجه العموم، ويكفي أن نعلم مثلا أن بحث عقيدة المعاد بحثا عقليا صرفا دون الاهتداء بتوجيهات الدين قد يؤدي إلى استحالته كلية لدى بعض العقول“[3]، كما قال الكفار: “اَإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد” [ق، 3]، وقولهم أيضا: “اَإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوَءَاباؤنا الاَولون” [الواقعة، 50-51] أو قد يؤدي إلى استحالته بصورة ما كما “أدى النظر العقلي المحض لدى بعض الفلاسفة إلى إنكاره في صورته الحسية، فاقتصروا على تصوره بصورة روحانية محضة، وهو افتراء على صريح القرآن وحقائقه، وذلك كله بسبب انفراد العقل في سلوك هذا الطريق“[4].
ثانيا: في مسائل الأخلاق: أي الخير والفضيلة وما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني ليكون الشخص صالحا.
ثالثا: في مسائل التشريع الذي ينتظم به المجتمع وتسعد به الإنسانية، وجاء الدين هاديا للعقل في هذه المسائل بالذات؛ لأن العقل إذا بحث فيها مستقلا بنفسه، فإنه لن يصل إلى نتيجة يتفق عليها الجميع[5]، ومعنى ذلك أنه لو ترك الناس وعقولهم في هذه الأمور، فستتنازعهم الأهواء، فيختلفون ويتفرقون أحزابا وفرقا وشيعا عديدة، ويتنازعون ولا ينتهي بهم الأمر إلى الوحدة والانسجام، ولا إلى الهدوء والطمأنينة والاستقرار، فالإسلام عندما ينهى عن الخوض في كنه الذات العالية، ويقصر العقل على ما دون الغيبيات، فإنه بذلك يصون الطاقات العقلية من أن تتبدد وراء الخوض والبحث في عالم الغيب، الذي لا سبيل للعقل أن يحكم فيه.
فالإسلام أعطى حرية التفكير وفتح جميع المجالات العلمية التي يستطيع العقل البشري أن يبدع فيها بعد أن يصل إليها ويكتشفها لكنه “لم يترك العقل يبحث في الغيبيات وأمور الآخرة؛ لأن البحث العقلي فيهما عبث ومحال وضياع، ولن يصل إلى نتيجة إلا بالتخيلات التي لا تنفع ولا تجدي شيئا بخلاف النظر في الكون وما فيه، فإنه يؤدي إلى فائدتين:
الأولى: العلم والمعرفة والاستفادة الدنيوية؛
الثانية: معرفة الخالق وعظمته، وإقامة العقيدة والإيمان على أسس راسخة وأدلة واقعية وبحث تحليلي“[6].
ولم يكتف منهج الإسلام في تربيته للعقل بما سبق ذكره في المطلب الأول، بل سلك طرقا متعددة، وسنحاول التعرف على بعضها من خلال كتابه الكريم، وسنة رسوله باعتبارها التطبيق العملي لهذا المنهج..
يتبع في العدد المقبل….
———————————-
1. د. عبد الحليم محمود، قرة العين في شرح الحكم، ص: 42.
2 . مجلة الوعي الإسلامي، العدد 339 السنة 30، ص: 85.
3 . محمد التومي الشيباني، فلسفة التربية لإسلامية، ص: 195.
4. الدكتور محمود عبد المعطي بركات: من مزاعم المستشرقين حول الفكر الإسلامي، ص: 269.
5 . محمد التومي الشيباني، المصدر السابق، ص: 196.
6. د. كارم السيد غنيم، أبعاد التكوين العقلي للفرد في الإسلام، ص: 93.
أرسل تعليق