Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

التاريخ تصنعه الأسر وأجيالها المتعاقبة

الشيء الحي القادر على السير إلى الأمام، هو أن لا نبدأ من فراغ؛ لأن الطريق طويل ويحتاج إلى عمل، والعمل يجب أن يرافقه الأمل؛ لأن رحلة الزمان تحديات، وعقباتها معابر محفوفة بالأخطار لمن شاء أن يصل إلى الأفق الأوسع، ولكشف ما في العالم الجديد، وما تولدت فيه من ثورات الاتصال والتكتل الواعي، وانقلاب التوازن العلمي والتقني في الكم والسرعة والنوع، إضافة إلى أن علم المستقبل يمضي بخطوات تنبئ بأن المستقبل أكثر شأنا من حاضرنا الذي لا وجود له في الواقع؛ لأن الماضي الطويل الذي أدخلنا في كهف مظلم في أكنانه وحش كاسر يفترس بأنيابه الحادة المتواكل الكسيح والمتباكي، ودون الخلاص من هاته الهوة أهوال، وأكبر من ذلك أن الأمية الحضارية في ميادين التقنية والعلم مما يشيب له الولدان؛ ولأن الساسة لم يتشربوا لا هذا وذاك وصدق الله العظيم إذ يقول: “ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ اَو مغارات اَو مدخلا لولوا اِليه وهم يجمحون” [التوبة، 56-57].

إن مشكلة التحول من الأمية الحضارية يفرض على الأسر المسلمة الموت أو البقاء؛ لأن أمتنا في هذا العصر في حاجة ماسة إلى تقدم تكنولوجي متطور، وهذا يحتاج إلى مجاهدة أقدر وأسرع، والأرض تمور تحت أرجلنا وتدور ونحن لا نشعر، وتدور معها آلات العلم والتقنية الدوران الرهيب، ولا أطيل الحديث على محنة العالم الإسلامي، كيف تفككت أوصاله وتعطلت إرادته، وبات أسيرا تابعا تبعثرت طاقاته وهو يشاهد طريقه إلى النهوض والوثبة طويلا ملغما بالعقبات، أضف إلى ذلك السطحية التي ملت منها الأفهام، فانقلبت البديهيات رأسا على عقب، والمسلم اليوم كالواقف على شاطئ البحر –بالنسبة للفكر الإسلامي- يرى الأمواج ويسمع تلاطمها وامتداد هذا البحر، ولكنه ليس له قارب ينزل به إلى لجة البحر، وليس له ملجأ يحمي نفسه من دواره، ولا وصفة دواء تعالج غثيانه.

ولا يرفع الإنسان المسلم إلى مدارج الكمال الإنساني الفاضل إلا منهج الإسلام المتكامل، وبدون الإسلام سيغوص في مروج الذلة والهوان، وهذا الاختلال الذي تعانيه الأمة راجع في الأساس إلى هذه الأنانية وما يستتبعها من أثر في الطراح القيم، والاستخفاف بالمثل العليا والهبوط والانسلاخ السحيق والتبعية العمياء، يقود خطاها إلى أحضان الموت الأزرق، والغريب أن البعض يريد أن يبقي على التبعية والتقليد وما يعيق التقدم، ونسوا أو تناسوا أن العصر يطالبنا أن نأخذ بما يمكن أن يخدم الحياة ويطورها، ويتوافق مع إسلامنا، أما ما عدا ذلك فلا يعنينا في شيء ولا يلزمنا، علينا أن نتعامل بتفتح وإدراك لما يمكن أن يطور أمتنا ويفتح آفاقا للتقدم في حياة البشرية، ولإيجاد وسائل الرفاه، والحياة لا تضيق بمن يريد تأدية واجباته، وبما يحقق الأرضية المناسبة للغربلة المتطورة الموضوعة ضمن أسس علمية، وعلى الرغم من الرعاية الأسرية للناشئة جزء لا يتجزأ من حياة الأسرة المسلمة في كل مكان من أرض الإسلام، وعلى الرغم من حاجات المجتمعات الإنسانية إلى يد حانية وقلب عطوف يبعث فيه ألأمل، ويبشرها بالتخفيف من متاعبها المرهقة، وبما يحقق الهدف النبيل لبني آدم جميعا.

شيء مهم ورائع أن بعض الأسر قد منحها الله قدرا من سعة الخيال والذكاء، شأن كل الذين غيروا تاريخ الإنسانية، وأسوأ ما يصيبنا ألا نغير نقيصة الخطأ وندعي أننا نتمتع بسعة الخيال، فنسمي النفاق والمداهنة مجاملة، مما يعكس قدرا كبيرا من القصور في الوعي، والتناقض وانفصام الشخصية، ولقد علمنا الأجداد أن من طبيعة المسلم ازدراء النفاق، لتبقى كرامته مصونة تأبى الضيم وتأنف الذل، ولا تتحمل الإهانة، هذا هو الشرف الرفيع الذي عناه المتنبي العظيم:

لا يسلم الشرف الرفيع مـن الأذى         حتــى يــراق على جوانبه الـــدم

وإذا هبت رياح الأحزان على مجتمع مغشوش بهذه المواقف السخيفة، مع العلم أن الأمة الشاهدة عليها أن لا تنفعل حتى تبلسم الجراح بالكلمة الطيبة، لهداية الشاردين ورد الضالين إلى ساحة الإيمان ويعمل صالحا، وبذلك تتنور القلوب المظلمة، وهذه مسألة لا تحتاج أن تناقش على سياق فلاسفة الأخلاق حتى لا نغرق في الجدليات والتشقيقات، وليس كالتجربة دليل ولا حجة، والتجربة الإنسانية معملها التاريخ والتاريخ تصنعه الأسر وأجيالها المتعاقبة، والأسر لا تسكن قلاعا في أودية معزولة، ففي البيوت شغالون وشغالات وأقارب، وحول البيوت جيران ومعارف، والبيوت يغشاها ضيوف وزوار، والأسر الكريمة الواعية المستنيرة تنتهز فرص الأعمار والحياة، لغرس أشجار طيبة حلوة وشغلها الشاغل التنوير والتعمير، فاتحة أبصارها وبصائرها، وسلاحها الذي تقاوم به الإرهاق الصبر التي تجتاز به كل بلاء، وتنجح به في كل اختيار واختبار، وبذلك تمتلئ القلوب نورا وسكينة وأملا قال تعالى: “قل هو للذين ءَامنوا هدى وشفاء” [فصلت، 43].

وتظل الحياة ناعمة متجددة ما بقيت علاقة الأسر بأجيالها وطيدة الدعائم، ثابتة الأركان، في ظل هذه الأدواح تستوي مع الأيام على سوقها، لكن حينما تضطرب وتتفاقم المجاذيف في أيدي الملاحين التائهين فوق أمواج البحار تنتهي بهم الرحلة إلى أحشاء الأسماك، في أعماق “لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض” [النور، 39]، والآن فالكلمة الحرة الشجاعة من الأسر تنشئ العمل وتبدع في الحياة؛ لأنها بدأت تعي وجودها، وشرعت تتجاوز الظلام، وتتخطى العوائق، وتخترق أسوار العزلة، وتمتلك شهادة ميلادها ووثيقة آدميتها؛ لأن الكلمة هي الحياة وبانطفاء الكلمة ينطفئ النور، وعلى هذا يظهر للعيان أن الأسر المسلمة رجالها ونساؤها هم حراس الأبراج، ينفون عن الحقائق كل زيف، وفي النهاية لا شيء يبعث على احترامك كإنسان، مثل نزاهة عقلك، ومضاء عزيمتك، ووهج روحك .

فما هو مستقبل الأمة؟ إنها بحاجة إلى عيون تنفذ إلى باطن المستور تماما كالتي نراها في عالمنا لترى ما انطوى عليه هذا الكون العجيب، وما تحتوي عليه مكنونات الحياة، واكتشاف العوالم الحية التي تعالج مشكلات الإنسان وكافة شجونه على أرض العروبة والإسلام، وتقيم علاقة وطيدة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فالأمة أحوج ما تكون إلى صياغة وجدان وعواطف قادرة على الإشعاع المباشر يعترف بجدواه القريب والبعيد، والعدو قبل الصديق، ونمشي أحرارا ماسكين مفاتح كل الأمكنة بفرسان جدد في الأرض وفي السماء وفي البحر، عابرين أسداف الدخان والحريق، متنورين بفكرة أن الحق أقوى من الباطل، وأنه المنتصر في النهاية، وهذا هو النجاح الذي ينعكس لفحة هواء تهب على لهيب التخلف لالتقاط الحقيقة الضائعة بين الجهل والعلم والذكاء والغباء، ووسط التناقض يكتشف الإنسان نفسه، ومن خلال اكتشافه لنفسه، يكتشف ناحية جديدة من عالمه وكونه، وفي كل لحظة يتجلى للمرئ جانبا جديدا من حياته، مما يزيد الحياة غنى وإخصابا، والمستقبل زخمة وازدهارا وشموخا.

والأسر التي تؤمن بأن الأجيال هي الأداة والهدف لأي جهد حضاري يدفن أسباب التخلف التي تحياه الأمة، هو هذا القصور المعيق عن اللحاق بركب الحضارة المعاصرة على جميع مستوياته، يكمن في عجز البنية الثقافية وهي تخرج من معركة الاستعمار والاستبداد خائرة القوى محطمة الشخصية، مهدودة الكيان، مما بلد الذهن وجمد الفكر فنفرت من مبادئ الصفوة البشرية ومصابيحها التي تنير الدروب، فاختلط عليها الأمر وعم الظلام، ولم تهيئ نفسها لتجاوز مرحلة العجز، وعدم اقتناعها بأن ما عند الإسلام يفوق ما يأتي من خارج ساحته، فحق عليها قول الشاعر:

محــال أن نرى للنصـر وجــها          ولو طــرنا إلى السبع الطباق

يقول اليائسون لقـــد تولـــى          وهيهات الرجــوع أو التــلاقي

سنبقى في انتــكاسات وذل          ومـســــكنة مــمـدة الـــرواق

أرسل تعليق