Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

أحمد التستاوتي (2)

يفيدنا أحمد الطريبق أن المتتبع لجوانب العلاقة بين التستاوتي واليوسي، يكاد يخرج بنتيجة واحدة، وهي أن التستاوتي كان يرى في اليوسي النموذج والمثال خاصة في الجانب العلمي والأدبي، رغم أن الرجلين يرتبطان بحبل واحد، حيث أن فارق السن بينهما ليس ببعيد فاليوسي من مواليد الأربعين بعد الألف، وبعدها ببضع سنوات كانت ولادة التستاوتي، خلال التواريخ التي بنى عليها زمن الولادة التقريبي وهو 1045هـ. ومع ذلك؛ فإن المراسلات بين الصديقين تعكس بجلاء واضح أستاذية اليوسي للتستاوتي. بل إن أشعار اليوسي جاثمة بظلالها على القوافي التستاوتية فأحيانا يعارضه، وأحينا يراجعه، وأحايين يقلده. وهذه وتلك من القضايا الأدبية المفيدة التي فصلت في أطروحة أحمد الطريبق، التي يمكن القول بدون مجاملة أنها من أعمق الدراسات الأدبية في المغرب المعاصر، وإن قراءة كتاب أحمد الطريبق متعة في حد ذاتها..

أما عن رأي صاحبنا التستاوتي في صديقه وأستاذه اليوسي فتجمله كلمات التستاوتي المحملة بالتقدير للرجل الكبير، فقد ذكره في منظومته اليائية، التي ألحق فيها رجال عصره برجال ممتع الأسماع، واعتبره الهادي إلى نور اليقين:

وعاينت فضلا بيّن النور ساطعا     من الحسن اليوسي، يفوق الدراريا[1]

وقد عرف التاستاوتي باليوسي قائلا: والحسن اليوسي وهو الشيخ أبو عبد الله الحسن بن مسعود اليوسي، أشهر من أن يذكر أو يعرف به، كان عالما مشاركا في جميع الفنون، له عقل كبير ونفس تواقة، تحب التطلع إلى منازل الأبرار، ومع ذلك كان يعترف بالتقصير، ويقول: أما المنازلات ومواجهة الأبرار والأسرار والمكاشفات لم نشم لها رائحة، وأما الفتوحات في العلم فقد نلت منها بفضل الله الحظ الأوفر[2]. ولا يذكر اليوسي في رسائل التستاوتي إلا بتحليات التقدير والتمجيد، ففي رسالة يصفه بـ اللؤلؤ الرطب والمورد العذب[3]، وفي رسالة أخرى يبالغ في التقدير، ولا ضير عليه، إلى ما لا بأس، أن نجعل قدمه على الرأس[4]، وفي أخرى يجعله سراج الملة وشيخ الحلة[5]، وفي الباقي والباقيات يناديه بالأستاذ الإمام.

ويشير أحمد الطريبق إشارة لطيفة في أطروحته مفادها أن أبا الحسن اليوسي، كالتستاوتي تأخذه العزة بالبادية، فلا يرضى عنها بديلا، لما في المدينة من مواضعات تتنافى والطبع البدوي المعجون بالبساطة وفطرة الحياة. لكن ظروف السياسة كانت تنغص عليه صفاء الراحة والاستقرار، فيضطر إلى الرحيل من خلفون الزاوية التي كان يتردد عليها بأمر من تجب طاعته على كل حال. والتستاوتي واحد ممن تألم لهذا الرحيل الإجباري، كما تسجل أشعار كتابه النزهة هذا الحادث المفاجئ فيتضرع إلى الله، راجيا منه الأمان والرعاية، يشمل بهما صديقه الحسن اليوسي:

يا رب بالهــــادي وبالأ صـحاب          وبسائر الأوتــــاد والأقـــــطاب

وبكل عبد في الـــــبرية صالحٍ          وبحـــمــلة الأمــــلاك والـكتاب

أمن بفضلك مهجة الحسن بن          مسعود من الأنكاد والأوصاب[6]

ونحن ندرك هنا مع هذه الشخصيات الفذة وغيرها-خصوصا أبناء الزاوية الدلائية- الدور الذي قام به أهل البادية في تاريخ المغرب العلمي والفكري، ومن يرى حال البادية في مغرب اليوم يأخذه العجب من هذه المفارقة بين إسهام تاريخي فعلي حقيقي موثق وبين إهمال معاصر على جميع المستويات..

وتجدر الإشارة أيضا إلى العلاقة التي  ربطت أحمد التستاوتي بالطيب بن المسناوي، وفي علاقة بها تلك التي ربطت الشاعر محمد ميارة (1072هـ) بمحمد المسناوي بن محمد بن أبي بكر ومحمد المرابط الدلائيين، وقد نتج عن هذه لعلاقات المختلفة فيض غزير من القصائد الشعرية التي أبدعنها قرائح الشعراء في مدح الدلائيين والتقرب إليهم وبكاء من غيبه اللحد منهم. ولعل هذه العلاقات هي التي انتهت ببعض هؤلاء الشعراء ليصبحوا دلائيين من حيث احتكاكهم واتصالهم بالزاوية وأبنائها. وهذا يدل على مكانة هذه الزاوية في تاريخ المغرب الفكري، ويدل كذلك على انخراط صاحبنا التاستاوتي في ديناميكية علمية غزيرة وكثيفة لا يمكن فهم التطور الفكري بالمغرب خلال العصور الحديثة دون فهمها والتعمق في دراستها، وهذا عمل يحتاج إلى نفس طويل باعتباره يندرج ضمن دراسات الأنثربولوجية التاريخية الكفيلة بإضاءة جوانب عميقة في تاريخنا وحضارتنا..

واختم هذه المقالة المركزة بالقول بأن أهل سلا، قد تبوءوا مكانة عليا في نزهة التستاوتي وفي أدبه ووجدانه، وهذه مسألة جديرة بالذكر، وقد فصل فيها الأستاذ أحمد الطريبق في دراسته الماتعة.

وكان العميري واحدا من الأحباء الذين أرخوا للتستاوتي حبل المصافاة والمناجاة. حيث ظل وفيا للرجل حتى آخر رمق في الحياة، إذ كانت سنة وفاة التستاوتي هي: 1127هـ. قول العميري في الفهرسة: “دخلت عليه في اليوم الذي توفي فيه، فوجدته جالسا على صندوق مرتفع من الأرض، فقال لي: إنما جلست هنا لأني صليت عليه هذه الصلاة – يعني الظهر– ويشق علي إن نزلت أن أصعد لصلاة العصر، فمات قبيل العصر أو بعده.. “[7]. رحم الله أحمد التستاوتي وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

—————————————-

1. نزهة التستاوتي، ج: 1، ورقة 163، ص: 324. نقلا عن أحمد الطريبق. مرجع سابق.

2. نفسه.

3. نزهة التستاوتي، ج: 1، ورقة: 28، ص: 54.

4. نفسه، ج: 1، ورقة، 30، ص: 58.

5. نفسه، ج: 1، ورقة، 69، ص: 135.

6. نزهة التستاوتي، ج: 2، ورقة: 53، ص: 103

7. فهرسة العميري.

أرسل تعليق